ملحمة قلعة (قشلة) رايات

كانت قلعة رايات حصناً قوياً تم بناؤه في عهد النظام الملكي كجزء من خطة الحكومة لغزو المنطقة، وكانت جدرانها مبنية من الحجر والأسمنت ومتینة جداً، وكانت وسيعة وكبيرة لدرجة أنها يمكن أن تستوعب فوجاً عسكرياً، ومن طابقين تتكون من قسمين رئيسيين وتحتوي على عدة غرف، المدخل الرئيس للقلعة مواجه للغرب ومحيطها مناطق خالية، وكان يقع بين قرى خلان ورايات وباوكراوه في منطقة بالكايتي.


وفي ٣ حزيران ١٩٦٢، وصلت شرارة ثورة أيلول إلى منطقة بالكايتي وتحركت قوات الپیشمرگة بإشراف مباشر من قائد الثورة الملا مصطفى بارزاني إلى ناحية کلالە بهدف تحريرها، كانت قوات شرطة المنطقة تنوي الدفاع ولن تستسلم للپیشمرگة، وفي هذه الاثناء كان بارزاني يشرف على المعركة من ماكوسان، وأخطرت برسالة إلى مدير الناحية بأن يستسلموا لقوات الپیشمرگة لإنهاء القتال دون إراقة دماء.

وفي ليلة ٣/٤ شهر حزيران ١٩٦٢، استسلم مركز للشرطة، لكن مدير الناحية وسرية للشرطة ومسؤولي المنطقة وكل من يعتبرون أنفسهم موالين لحكومة عبد الكريم قاسم (١٩٥٨-١٩٦٣) لجأوا مع عائلاتهم سراً إلى قلعة رايات، في حين كانت الطائرات الحربية التابع للدولة  تقصف قوات الپیشمرگة باستمرار من الصباح حتى المساء.

وكان هناك عدد كبير من رجال الشرطة داخل القلعة، وكان مسؤولهم شخص كوردي يدعى كريم خوراني، ولكن عندما وصل مدير الناحية وهو عربي ولا يتحدث الكوردية إلى القلعة وأصبح هو القائد والمسؤول الأول، وفي ٤ حزيران ١٩٦٢، قامت قوات الپیشمرگة بقيادة حاج بيروخي والعريف ياسين ومحمود كاواني ومصطفى نيرويي وحسن خال حمزة وأحمد مستى وعمر دبابة، إلى جانب عدة قوات عشائرية، بمحاصرة قلعة رايات.

وحاولت قوات الپیشمرگة تخويف الشرطة بإطلاق النار وإجبارهم على الاستسلام، إلا أن المحاصرين رفضوا الاستسلام وقاتلوا وطلبوا المساعدة من الحكومة، وكانت قوات الپیشمرگة على اطلاع تام على  برقيات الحكومة، حيث كانوا محاصرين ويطلبون الدفاع والإنقاذ واستمروا في الدفاع، وبعض البرقيات كانت موجهة مباشرة إلى رئيس الوزراء العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم.

وكانت الحكومة العراقية تقصف قوات الپیشمرگة بشكل مستمر بالطائرات الحربية، لكنها لم تلحق أي أضرار بها، إضافة إلى ذلك، كانت الطائرات تقوم في بعض الأحيان بإسقاط المواد الغذائية والذخيرة وغيرها من الإمدادات على القوات المحاصرة من الجو، ووصل قليل من هذه الأمدادات تصلهم، وسقطت الاكثرية في أيدي الپیشمرگة، وبعد اسبوعين من حصار القلعة غادرت قوة من الجيش العراقي بقيادة العقيد وهبي مكونة من الفوج الثالث من اللواء الثالث، انطلقت من رواندز عن طريق برسيرين نحو رايات لكسر الحصار وانقاذ المحاصرين.

وحاصرت قوة من الپیشمرگة بقيادة محمود كاواني وحارس بيداروني الجيش العراقي في كوسبي سبي وكوسبي روله وجسر الحافظ، واندلع قتال عنيف بينهم، ونتيجة لذلك تم تدمير فوج الجيش العراقي بالكامل، وقتل بعضهم وأصيب بعضهم بجروح وتم أسر آخرين. وفي هذه المعركة أدركت الحكومة العراقية أنه لا أمل في الوصول عبر هذا الطريق إلى رايات وكسر حصار القلعة، لكنها لجأت إلى طريق آخر وهو الاستعانة بالمسلحين المرتزقة لمهاجمة الپیشمرگة من الخلف على جبل هلکورد المقابل لرايات ومحاولة فك الحصار.

على ما يبدو، كانت مجموعة من المرتزقة قد خططت للهجوم خلف جبل هلکورد، لكن عندما سمع بارزاني الأخبار وعلم بالخطة، عهد بحصار القلعة إلى علي عسكري واستعد لإحباط هذه المحاولة الحكومية، ووصل مع قوة من الپیشمرگة لمواجهتها بفترة زمنية قليلة، وفي ٢٧ حزيران ١٩٦٢ تصدت قوة الپیشمرگة للقوات الحكومية في منطقة جیغدري و دول و میدان و هورني بالكیان، وبعد ثلاثة أيام من القتال العنيف، استطاعت تفتيت صفوف المرتزقة، بحيث عبر بعضهم الحدود إلى الأراضي الإيرانية، فيما زحف البعض الآخر إلى أودية منطقة لولان، وبذلك فشلت المحاولة الثانية للحكومة العراقية لكسر الحصار.

وبعد أن بذل الپیشمرگة قصارى جهدهم لتسليم المحاصرين وباءت مساعيهم بالفشل، أمر بارزاني في ١٠ حزيران ١٩٦٢ ببناء نفق داخل القلعة، تم تنفيذ النفق من قبل ١٦ من افراد الپیشمرگة وحفارين شرقيين عن طريق المعاول والمجارف، ومن مسافة ٣٥٠ متر في حفرة شرق القلعة باتجاه البرج الأول للقلعة دون مساعدة من الفنيين والمهندسين المحليين والأجانب، وفي بعض الأحيان كانوا يحفرون حفرة ويرفعون علامة حمراء لمعرفة المدة التي مرت قبل أن يصلوا إلى القلعة، وفي غضون ٣٢ يوماً، وصلت بوابة النفق إلى أول برج للقلعة خارج أسوارها الحجرية. كانت العلامات الحمراء وأصوات الرقع والإجراءات أخافت رجال الشرطة، ومرّ علي عسكري وأشرف آميدي عبر النفق الموجود أسفل أسوار القلعة وقاما بالتحدث مع مدير الناحية من خلال فتحة، بأنه ليس لديهم خيار سوى الاستسلام أو صب مادة تي ان تي على جدران القلعة الأربعة وتفجيرها على رؤوسهم، وجاء في اشارة آخرى، بأن المسؤولين الأثنين من  الپیشمرگة كانا يتحدثان العربية وبلّغا مدير الناحية وواعداه بإطلاق سراحهم إذا استسلموا.

وفي ليلة الخميس ١٢ تموز ١٩٦٢، استسلم المحاصرون، وعددهم ١٥٠ شرطياً، وتم إرسال مدير الناحية وعدد من رجال الشرطة إلى مقر الثورة في بيتواته وتم سجنهم في أحد الكهوف، وتم تسليم الآخرين إلى الحكومة العراقية عبر بيرانشهر في إيران إلى قصر شيرين، وكانت نية بارزاني هي وصول صوت الثورة عبر الحدود، وعند وصول السجناء إلى إيران كانت الإذاعة والصحف الأوروبية قد نشرت الخبر، وفيما يتعلق بالسجناء في بيتواته، فقد تم إعدام العريف كريم خوراني مسؤول شرطة قلعة رايات بعد سجنه، وفي أحد الأيام، طلب مدير الناحية مقابلة علي عسكري وأخبره أنه لم يف بوعده، ثم أُطلق سراحه بعد بضعة أيام مع عدد من رجال الشرطة.  

وبالرغم من وصول وفد من الفرقة الثانية في الجيش العراقي إلى حجي أومران للتفاوض مع بارزاني في اليوم الخامس من تموز ١٩٦٢ لكن دون جدوى بعد الاستيلاء على القلعة، شملت مكاسب الثورة ١٠٣ من الأسلحة الروسية والأنكليزية والبولونية وست رشاشات روسية الصنع من نوع برين و٣٠٠٠ رصاصة انكليزية وجهازي لاسلكي وشاحنة، وبقرار الثورة تحولت قلعة رايات إلى سجن وأسندت المسؤولية إلى سعيد مصيفي.

وفي ١١ تموز ١٩٦٢ عشية استسلام المحاصرين، تلقى بارزاني رسالة عاجلة من عمر دبابة، يشير فيها إلى أن قتالاً عنيفاً يدور بين قواته ومجموعة من المرتزقة، وكان قد طلب من بارزاني مساعدة عاجلة لوقف المسلحين من التقدم الاكثر والسيطرة على بعض الأماكن، وذهب بارزاني بنفسه مع مجموعة من پیشمرگته لمساعدتهم، وعندما وصل بارزاني وقواته إلى ساحة المعركة، فقد المرتزقة معنوياتهم ولم يتمكنوا من الاستمرار ولاذوا بالفرار، وانتهت المعركة لصالح الپیشمرگة وخرجوا من جميع الأماكن التي سيطروا عليها وعبروا إلى الأراضي الإيرانية، واستشهد خلال هذه المعركة اثنان من الپیشمرگة وجُرح ١٢ آخرون. وبذلك تم تفكيك مركز شرطة رايات والقوة الحكومية العراقية الوحيدة في المنطقة وطردها من المنطقة دون وقوع أي ضرر ولم تتمكن القوات الحكومية الوصول الى المنطقة حتى نهاية الثورة، كما فرضت الثورة السلطة الكاملة على المنطقة وانتقلت نحو مرحلة جديدة على صعيد من حيث ترسيخ الروح الثورية وتبديد خوف النظام على مواطني المنطقة وزيادة أعداد الپیشمرگة.

 


المصادر:

١-  مسعود بارزانی، بارزانی و بزوتنەوەى ڕزگاریخوازی کورد، بەرگی سێیەم، بەشی یەکەم، شۆڕشی ئەیلوول ١٩٦١-١٩٧٥، چاپی یەکەم، (٢٠٠٤).

٢-  ئیسماعیل گوندەژۆرى، شۆرشى ئەیلول لە باڵەکایەتى، چاپخانەى رۆژهەڵاات، چاپى یەکەم، ( ٢٠١٨).

٣-  شەوکەت مەلا ئیسماعیل حسن، ڕۆژانێ لە مێژووى شۆرشى ئەیلوول، چاحى یەکەم، (هەولێر- ٢٠٠٧).

٤- هاوکار کەریم حەمە شەریف، شۆڕشى ئەیلوول ١٩٦١-١٩٧٠، چاپى یەکەم- (چاپخانەى زانکۆی سەڵاحەدین- هەولێر- ٢٠١٢).

٥-  غازى عادل گەردى، پێشمەرگەیەک لە خزمەت ڕێبازى بارزانیدا حەجى بیڕۆخى، بەرگى یەکەم چاپى دووەم، (تورکیا- ٢٠٢١).

٦-  خورشید شێرە، خەبات و خوێن، بیرەوەریەکانی ساڵانی خەباتی پێشمەرگايەتی، چاپی سێیەم، (هەولێر- ٢٠١٥).

٧-  ئارى کەریم، چەند لاپەڕەیەکى زیندوو لە شۆڕشى ئەیلوولدا، (چاپخانەى خەبات- دهۆک- ١٩٩٩).


مقالات ذات صلة

ملحمة گورز ١٩٧٤

يقع جبل گورز غرب مدينة سوران وشمال مدينة رواندوز، وهو مكان مهم واستراتيجي بالنسبة لمدينة سوران، في عام ١٩٧٤ حاول الجيش العراقي شن هجوم على قواعد ومقرات الپیشمرگة عبر جبل گورز، وتكبد الجيش العراقي خسائر فادحة في تلك المعركة، حيث ترك نحو ٤٠ جثة لجنوده في ساحة المعركة.

مزيد من المعلومات

ملحمة لومانا – کڤلسنى

بعد معركة زاويته في ٥ حتى ٦ كانون الأول ١٩٦١ والتي حققت فيها قوات الپیشمرگة نصراً كبيراً، وبعد أن ألحقت أضراراً فادحة بالجيش والمرتزقة، وادى ذلك الى سيطرة الپیشمرگة على ناحية سرسنک ووادي زاويته...

مزيد من المعلومات

ملحمة قرداغ ١٩٦٨

في أواخر عام ١٩٦٨ شنت الحكومة العراقية بمساعدة وتنسيق مسلحي المكتب السياسي القديم هجوماً مضاداً كبيراً على المناطق الخاضعة لسيطرة ثورة أيلول، تمكنوا من احتلال مساحة جغرافية واسعة في کرميان وقرداغ، لكن قيدة الثورة شنت هجومًا شاملاً لتحرير هذه المناطق، وفي تشرين الثاني ١٩٦٩ تمكنت من السيطرة على قرداغ وعدة مناطق أخرى وطرد قواتهم من تلك الاماكن.

مزيد من المعلومات

ملحمة مضيق عمر آغا

يقع مضيق عمر آغا في شمال سهل ديانا بين قرى بادليان في الجنوب وشيخان في الشمال، ويمر من هذا المضيق الطريق الرئيس بين سوران- سيدكان، في ٦ نيسان ١٩٦٦، شن الجيش العراقي هجوماً برياً وجوياً تحت اسم (توكل على الله) على هندرين وزوزك ومضيق عمر آغا...

مزيد من المعلومات

ملحمة چمي ريزان

تدور أحداث هذه الملحمة في تشرين الأول عام ١٩٦٣ في چمي ريزان، حيث هاجم الجيش العراقي بدعم من قوة عسكرية تابعة للدولة السورية چمي ريزان، وبعد شهر من القتال والمواجهات، انسحبت قوات الپیشمرگة من المنطقة وسيطرت الحكومة على المنطقة، ولكن واصلت قوات الپیشمرگة على شكل حرب عصابات القتال وضايقت الجيش العراقي، حتى جعلت الحكومة مضطرة إلى الدعوة إلى الحوار، وفي أوائل عام ١٩٦٤ تم اعلان وقف إطلاق النار.

مزيد من المعلومات